تعلم الآلةمترجممقالات

لماذا ننمذج؟

كتابة: Abeba Birhane    ترجمة: فاطمة الزهرة بورباب (باختيار من سفيان ناصر الله)    مراجعة: فارس القنيعير

[تم ترجمة المقال من: https://abebabirhane.wordpress.com/2018/12/09/why-model]

خلال متابعتي لدورة “المدخل إلى الأنساق الديناميكية و الفوضى”، صادفت هذه الورقة البحثية الصغيرة التي تم اقتراحها في فصل “النمذجة”. تستعرض الورقة بعض أكثر التصورات الخاطئة رسوخاً عن بناء النماذج.

“مسعى النمذجة مسعى قديم قِدم أرخميدس نفسه، و كذا سوء فهمه” إبستاين 2008

فلماذا ننمذج؟ وما هي النماذج؟ ومن هم المنمذجون؟ قبل اطلاعي على هذه الورقة، كانت إجاباتي القصيرة لتتوافق مع الاعتقادات الخاطئة السائدة والمنتشرة على نطاق واسع:

ننمذج لنفسّر و نتنبأ، والنماذج تمثيلات صورية (رياضية غالباً) لظاهرة أو لمجموعة عمليات. و المنمذج من يبني تلك النماذج الرياضية الصورية. إلّا أن إبستاين يقول:

“كل من يروم إسقاطاً أو يتخيل مآلات ديناميكيةٍ اجتماعية -وباء، حرب، هجرة جماعية- يقوم بالنمذجة”

تروق لي فكرة أننا ننمذج ضمنياً باستمرار. يمنح هذا المنظور النمذجة الضمنية الأهميةَ التي تستحقها في النطاق الاجتماعي والسياسي حيث يصعب جداً تفعيل وتحديد المتغيرات.

تستعرض الورقة ستة عشر سبباً مختلفاً لبناء النماذج غير التنبؤ. وقد ألهمتني جداً فكرة أن التنبؤ والتفسير ليسا هدفي النمذجة الوحيدين، علمًا أنني كنت على علاقة حب/كراهية مع النمذجة فيما مضى. صحيح أن النماذج تغريني وخاصة التي تميل منها إلى الأنساق الديناميكية، لكني عادة ما أتضايق من النزعة العامة إلى اتخاذ التنبؤ غاية نهائية. وللتوضيح، فلا إشكال عندي في التنبؤ كهدف و غاية، لكن الإشكال يُطرح حينما 1) نتوهم أن النماذج تمنحنا الأدوات للتنبؤ بسلوكات شخصية معينة 2) أو أن بمقدرونا التنبؤ بظاهرة ما قبل أن نفهمها، وخاصة لو كانت الظاهرة سلوكاً بشرياً.

دعوني أستفيض في سياق الأنساق التنبؤية الآلية الشائعة حالياً (في دائرتي الأكاديمية على الأقل) والتي كثيراً ما تشغل تفكيري. ادعاء القدرة على التنبؤ بالسلوكات “الإجرامية” و “الخطيرة” مثال من العناوين الإخبارية للأسبوع الفائت: ” تأمل شرطة بريطانيا من الذكاء الصناعي أن يتنبأ بالسلوك الإجرامي قبل حدوثه” و “Predictim، مؤسسة ربحية لتحليل البيانات، تدّعي أن بمقدور ذكاءها الاصطناعي تحديد المربّيات “الخطيرات”. ليست هذه للأسف مجرد استثناءات مشينة، بل التوجه العام الذي يبدو أن الأمور تتجه إليه في دائرة المراقبة الرقمية.

تمثّل السلوكيات “الإجرامية” أو “الخطيرة” وما إلى ذلك، سلوكيات معقّدة جداً وتواؤمية، ونتيجة لعدد لامتناه ومتزايد من العوامل التي يستحيل أن نحددها كلياً في المقام الأول. وهو ما يجعل توقع السلوك الإجرامي بيقين مستحيلاً. هنا يذكرّنا جواريرو بعلّة استحالة التنبؤ بالسلوك البشري بدقة، فيقول:

“حين يتعلق الأمر بالأنساق التواؤمية المعقدة، فلا بد من مفاجآت. إذ تتسم هذه الأنساق بانعطافات استنثائية وتقلبات متجددة نظراً لحساسيتها تجاه الشروط الأولية -و ذلك لانغراسها في السياق والزمان. وما دمنا لن نتمكن أبدًا من تحديد الشروط الأولية لأي نسق ديناميكي بالدقة (اللامتناهية) المطلوبة، فبالأحرى لن نتمكن مطلقاً من التقاط جلّ تفاصيل و ظروف حيوات الأشخاص و خلفياتهم. و بالنظر إلى هذا التقييد، فلا ينبغي أن يغيب عنّا أن إعادة تشكيل بعض مثيلات السلوك سيظل دومًا تأويلاً لا استنباطاً -وهو نوع تفسير أكثر عرضةً للخطأ مما كنّا نأمله في السابق. تأويل أفعال البشر يظل دوماً محاولة لا غير. و بالتالي فإن اليقين المطلق فيما قام به العميل للتو أو ما سيقوم أو ستقوم به لاحقاً بعد سنة بالضبط من اليوم، أمر مستحيل” (جواريرو 1999، ص. 125)

إن ادعاء التنبؤ بالسلوك “الإجرامي” أو “الخطير” هو أكثر من مجرد سوء فهم للطبيعة البشرية أو من مجرد أوهام عن قدرات أدوات الذكاء الاصطناعي. فهذه الأدوات لها تبعات خطيرة على حيوات الأفراد حين يتم تطبيقها على العالم الاجتماعي. وحين ندّعي استعداد الشخص للإجرام فإن الخطأ يصير حتمياً وثمن الخطأ هنا باهظ جداً. و لا عجب أن الذين يدفعون هذا الثمن هم الحلقة الأضعف من المجتمع، الطبقة المحرومة، إذ أن مثل هذه النماذج تُستعمل لمعاقبة وحرمان أولئك الذين يقعون ضحيتها.

هناك إشكال آخر مختلف قليلاً لكنه متداخل مع قضية النمذجة، وهو أن السعي الحثيث للتنبؤ والتفسير غالباً ما يغفل عن قيمة الوصف و/أو الملاحظة في اكتساب معرفة عميقة. لا شك أن الوصف لأجل الفهم، والتفسير مع التنبؤ، لا يلغيان بعضهما البعض بالطبع، لكننا في الواقع قد تبنينا التنبؤ والتعميم بوصفهما الغايات الرئيسية من العلم. وبالتالي فإن الدراسة لأجل الوصف والفهم لم تُقدر حق قدرها. وقد يتساءل القاريء عن جدوى الوصف؟ أعتقد أنه يلزم فهم الظاهرة أو العملية بالعمق والدقة المطلوبة قبل محاولة تفسيرها و التنبؤ بها، والوصف مفتاح اكتساب مثل هذا الفهم.

وأترككم مع هذه الإشارة اللطيفة من كتاب تأويل الثقافات (Interpretation of Cultures ,Geertz 1973):

“.. لم يسبق أن راقت لي الدعوات القائلة بأن اللغويات البنيوية أو الهندسة الحاسوبية أو بعض أشكال التفكير المتقدمة ستسمح لنا بفهم الإنسان قبل معرفته”

اظهر المزيد

فاطمة الزهرة بورباب

مهندسة برمجيات بالرباط المغرب و مترجمة حرة لها عدد من الكتب المترجمة في فلسفة العلوم و غيرها.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى